فى دريدا انتامءه ألي ذوق عرفاين وكان يعترب أن مثة رضورة تدبّر إرادته يف الكتابة. ميشال دو سارتو، مؤرخ
العرفان املسيحي، جعل من «العرفاين» منوذج (براديغم) الدراسات األنرثوبولوجية واملابعد حداثية، التي تستند عىل
البحث عن التفاصيل ووفرة املجازات، وهام قيمتان تدبّران أيضا ً التفكيك الدريدي: «إن العرفاين هو الذي ال ينفك
عن السري والذي، بتيقّنه باألمر املسلوب منه، يعرف يف كل مكان ومن كل موضوع أنه ليس هذا، وأنه ال ميكن اإلقامة
ُ وتفقد األمكنة، تقود نحو البعيد، نحو مكان آخر. ربهنا وال االكتفاء بهذا. الرغبة تصنع اإلرساف. فهي تتجاوز وتَع
ال تسكن يف أي مكان، إنها مسكونة». كانت العالقة بني بطيل ْ االختالف، األول يف الفلسفة، والثاين يف الثيولوجيا، غري
مبارشة. أشار دو سارتو إىل دريدا يف العديد من كتاباته، وخصّص له دريدا مقاال ً عنوانه «عدد الـ»بىل»»، املنشور مع
مجموع مقاالت حول ميشال دو سارتو تحت إرشاف لوس جيار، سنة بعد وفاة صاحب «الحكاية العرفانية». يُعترب
مقال دريدا مبنزلة رمز، كإجالل وتقدير، للتعبري عن االهتامم الذي كان يوليه املفكريْن للكتابة: «مثلام أنني ال أنىس
ما كتبه ميشال دو سارتو حول الكتابة يف النص العرفاين: إنه أيضاً، من أوله إىل آخره، عبارة عن وعد».
Derrida a toujours nié son appartenance à un quelconque goût mystique. Une nécessité
régissait sa volonté d’écrire. Michel de Certeau, historien de la mystique chrétienne, en a fait le
paradigme des études anthropologiques et postmodernes, basées essentiellement sur la quête du
détail et la profusion des métaphores, celles-là mêmes qui régissent la déconstruction derridienne :
» Est mystique celui ou celle qui ne peut s’arrêter de marcher et qui, avec la certitude de ce qui
lui manque, sait de chaque lieu et de chaque objet que ce n’est pas ça, qu’on ne peut résider ici
ni se contenter de cela. Le désir crée un excès. Il excède, passe et perd les lieux, il fait aller plus
loin, ailleurs. Il n’habite nulle part, il est habité «1. Le rapport entre les deux protagonistes de la
différence, l’un en philosophie, l’autre en théologie, a été de biais. De Certeau citait Derrida dans
ses contributions et Derrida lui a consacré un article2 paru dans le recueil » Michel de Certeau «
sous la direction de Luce Giard, un an après le décès de l’auteur de La fable mystique. Cet article
fait figure d’emblème, en guise d’hommage, pour témoigner de l’intérêt que les deux auteurs
portent à l’écriture : » Pas plus que je n’oublie ce que Michel de Certeau écrit de l’écriture dans le
.texte mystique : c’est aussi, de part en part, une promesse «3
املقاربات الثالث للعرفان 1-
كلمة «عرفان» ال ميكنها أن تُختزَل إىل البُعد الديني. إنها كلمة واسعة ومرنة وأقل مأسسة ً وكهنوتاً. إذا أردنا
تحديد كلمة «عرفان»، فبأية عبارات؟ تحويل الصفة «عرفاين» إىل اإلسم «العرفان» هو تحويل حديث النشأة ويعود
م كام أوضح ميشال دو سارتو بقوله: «قمت ُ بتحليل عالمة ألسنية لهذا التطوّر،17و 16 أساسا ً إىل منعطف القرنني
14
2017 العدد السابع والثامن سبتمرب مجلة
. يعود هذا التحوُّل إىل العصور الحديثة: من «العرفاين» إىل4وهو صريورة العرفان اسام ً يف القرن السادس عرش»
.5«العرفان»، ونقصد بذلك االنتقال من الالهوت العرفاين إىل العرفان بوصفه علام ً مستقال ً وقامئا ً بذاته
والذي أعطى fari هذا التمييز مهم وحاسم، ألن كلمة «عرفان» هي قول (منحدر عن الجذر الالتيني «فاري»
)، هذا القول الذي يبحث عن التقيُّد بعلم الذي هو معقولية لها قواعد يف االشتغال واالستعامل. كامfable الحكاية
)، ال ينبغي فهم العلم هنا «باملعنى املعارص للكلمة، بوصفه مجموعة منظَّمة منLuce Giardتشري لوس جيار (
املعارف التي ترتبط بوقائع تخضع إىل قوانني موضوعية». وتضيف: «يف لغة القرنني السادس والسابع عرش، يدل العلم
. اتخذ هذا العلم تسمية «العلم التجريبي»6عىل شكل من العقالنية وليس مدوَّنة نظرية تحكم موضوعات املعرفة»
) الذي خصَّصJean-Joseph Surinمن طرف أحد أشهر متصوفة القرن السابع عرش وهو جون جوزيف سورين (
له دو سارتو تحقيقا ً نقديا ً ألعامله وقراءة واسعة ومتبحّرة يف كتاباته.
لقد كان غرض دو سارتو هو نقل العرفان نحو موطنه الطبيعي واألصيل وربطه بالحدث، وبشكل أعم بالتاريخ.
): «إن السؤال املبديئ يخص الجدّية التي نضفيها عىلMireille Cifaliَّ عن ذلك يف حوار له مع مرياي سيفايل ( ربع
عالقة التجربة العرفانية بالتاريخ. إنه سؤال امتحاين ألن باملقارنة مع كل العرفانيني الذين درست أعاملهم، الوجد أو
. يدعّم دو7الشطحات ينبغي إرجاعها إىل الواقع «املشرتك»: العودة إىل اجتامعية يومية هي معيار التجربة العرفانية»
سارتو هذه املالحظة يف مقاله «العرفان» املنشور يف «املوسوعة الشاملة» عندما يكتب: «مهام كان موقفنا من العرفان،
.8حتى ولو تعرَّفنا فيه عىل بروز حقيقة كونية ومطلقة، ال ميكننا معالجته سوى تبعا ً لسياق ثقايف وتاريخي محدَّد»
إذا كان العرفان رهني وضعية ثقافية وتاريخية معيَّنة، فإن األشكال التي يرتبط بها أو يتجسّد فيها متعدّدة
) يف ثالثة أشكال:Jacques Le Brunاأللوان، وقد حدّد جاك لو بران (
ّ عن اضطراب نفيس يؤدّي إىل اإلفراط والكآبة ربالذي كان يرى يف العرفان ظاهرة شاذَّة تع الرتاث «النفساين»1-
والسوداوية. تعزَّز هذا الرتاث النفساين إىل غاية القرن التاسع عرش عندما أصبح العلم الوضعي سمة بارزة يف املناهج
العلمية املطبَّقة.
) يف مراسالته مع فرويد حيث استحرضRomain Rollandالذي ابتكره رومان روالند ( التصوُّر «األقيانويس»2-
دو سارتو بعض املقاطع املهمة منها: «باملقارنة مع التحليل الذي قام به فرويد للدين يف كتابه «مستقبل وهم»
)، فإن رومان روالند عارضه بفكرة «الشعور الديني الذي يختلف عن كل األديان املعروفة»: «إنه الشعور1926(
. يُربز9 »)1927 ديسمرب 5 باألزل»، «شعور أقيانويس» الذي ميكن وصفه كاحتكاك أو كحدث (رسالة إىل فرويد بتاريخ
)la vague) وباملوجة أيضا ً (le vague)، املباحث األساسية املرتبطة باملبهم (Jungهذا التصوُّر، سليل أبحاث يونغ (
التي يغرق فيها العرفاين، وألن معظم االستعارات بشأن التجربة العرفانية تُوظَّف فيها كلامت البحر والعُمق واملوجة
واملبهم والغامض، وكل ما يدل عىل الالنهايئ وما ال ميكن القبض عليه.
ّ عن تجربة معيَّنة. افتتح جون باروزي ربالذي يرى يف العرفان مجموعة من النصوص التي تع الرتاث «الكتايب»3-
) هذه الفكرة يف كتابه «القديس يوحنا الصليبي ومشكل التجربة العرفانية»، والتي سيأخذ بها دوJean Baruzi(
سارتو يف مقاربته لهذه التجربة يف كتابه «الحكاية العرفانية». العرفان بوصفه كتابة، هذا هو اليشء الجديد يف كتابات
15
2017 العدد السابع والثامن سبتمرب مجلة ً
القرن العرشين حول العرفان بعد هيمنة البُعدين النفساين واألقيانويس. يقول لوبران: «بالنسبة لجون باروزي، بدال
من أن تنغمس يف موجات األقيانويس أو يف التجربة الالعقالنية للعجيب والخارق، فإن العرفان يكشف عن فكر،
وهو «الفكر العرفاين»، وعن فلسفة صارمة هي التي نكشف عنها يف رصامة الكتابة ذاتها [...] يتعلق األمر برتاث
«كتايب» كام أسميه، مبعنى تراث يَعترب العرفان كتجربة يف اللغة والكتابة، وهذا الرتاث هو الذي مال إليه دو سارتو
.10يف أبحاثه»
تحاول مبادرة دو سارتو إىل التفكري يف التاريخ ويف العرفان عىل حد سواء حيث تكون الكتابة هي عامل الوصل.
، بالتفكري يف التسلسل الزمني الذي تتخلَّله الثغرات أو«الحدث املجاور للحدث» فالتاريخ يفكّر يف الغياب من باب
، باستحضار الغائب يف اللحظة الراهنة«الحدث داخل الحدث» القطيعات؛ بينام يفكّر العرفان يف الغياب تحت منط
أو البدء هنا واآلن. غري أن هذا البدء مفقود إىل غري رجعة، لكنه يجعل القول والكتابة العرفانيني أمرا ً ممكناً، ويجعل
القبض عىل موضوعهام أمرا ً مستحيالً: «ذلكم هو شكل الرغبة، يقول دو سارتو. فالرغبة ترتبط بهذا التاريخ الطويل
) حيث كان األصل والتحوُّل، يف أشكالهام التوحيدية، يؤرقان فرويد. يشء واحد ينقص، وكل يشءl’Uniqueللواحد (
.11ينقص. يقوم هذا البدء الجديد بقيادة سلسلة من التيهان والجوالن. إننا مرىض بالغياب ألننا مرىض بالواحد»
إذا عمل دو سارتو عىل تحديد العرفان انطالقا ً من فرضياته التاريخية بتفسري نشأة العلم الصويف يف منعطف ً
الحداثة الغربية، فمن املفيد العودة إىل «العرفاين» عُنرصا ً كامنا ً يف كل تجربة، أو العرفاين بوصفه «أيوناً» عابرا
لألزمنة، رغم أن هذه الفكرة ال يستسيغها دو سارتو، مبعنى التحرُّر من التاريخ لعبور أزمنته نحو يشء كوين ينطبق
عىل كل التجارب رغم اختالفاتها الجغرافية والنظرية. سنتكلم إذن عن العرفاين الذي يرتبط بشكل وطيد بالرسّي أو
الباطني والذي ينظم، خُلسةً، بعض كتابات دريدا، حتى وإن رفض دريدا مَيْلَه نحو أي ذوق عرفاين. لكن ليس العرفان
باملعنى املبتذل، وإمنا العرفان الذي له بالكتابة شُحنة وشُجنة، له رابط وثيق وموثوق فيه، والذي ينطوي عىل قيم
.)le secret) والرس (l’écoute, Hörenالسامع (
العرفان الكتايب: كيف نكتب «املسكوت عنه»؟2-
) يقصد الكلمة املمنوعة أو املستحيلة. لكن هل ميكن كتابة املمنوع واملستحيل؟l’ineffableاملسكوت عنه (
إن التجربة العرفانية املفتوحة عىل القول مل تفقد أبدا ً الكلامت لتحدّد موضوعها الصعب، وتقوم بتثبيته يف الكتابة
،)hyperboliqueالنرثية أو الشعرية. بل هناك وفرة يف املجازات وانقالب يف الكتابات، تارة كتابة ذات إطناب ( ً
) كام نجد ذلك يف أشعار الحالج يف اإلسالم أو إنياسيو دي لويوال يف املسيحية؛ وتارةmélancoliqueكتابة اكتئاب (
Nicolasأخرى كتابة نسقية ومفهومية مع األنساق امليتافيزيقية الكربى عند ابن عريب يف اإلسالم ونيكوال الكوزي (
) يف املسيحية. إن املسكوت عنه يدعو إىل الكتابة عندما يكون، من أوَّل وهلة، مصاب بالدهشة: الصمت.de Cues
). عندما يصمت القول، فإن العني تطبع شذرات تصبح مبرور الوقتtémoignageفالكتابة تخط تجربة أو شهادة (
عبارة عن ذاكرة التي متنح للكتابة مادة االستطراد واإلطناب واملبالغة.
. يتساءل12ال يشء يُربز هذه العالقة بني التجربة والكتابة سوى نص مقتضب مليشال دو سارتو عنوانه «كتابات»
دو سارتو يف نصه هذا عن الدافع نحو الكتابة والغرض من الكتابة: «ملاذا نكتب؟ يك ال نزول. مقاومة موت النشوة
. إذا كان دو سارتو يستحرض هنا تجربة خاصة، تجربته يف الكتابة، فهي ال تختلف يف جوهرها عن التجارب13اإلدراكية»
16
2017 العدد السابع والثامن سبتمرب مجلة
العرفانية التي كان متعوّدا ً عليها. عندما يستحرض الكتابة كمقاومة النسيان، فهو يقوم بأقلمة مفهوم العرفان الذي
وضعه عىل رشطه اإلنساين الخاص. لنقرأ مفهومه للعرفان، ألنه سيساعدنا الحقا ً يف معرفة إذا كان ينطبق عىل دريدا
أيضاً. يقول دو سارتو: «إن العرفاين هو الذي ال ينفك عن السري والذي بإدراكه باليشء الذي ينقصه، يعرف من كل
.14»بهذا وال االكتفاء هنا ، وأنه ال ميكن اإلقامةهذا مكان ومن كل موضوع بأنه ليس
عدم اإلقامة هنا وعدم االكتفاء بهذا، هو تعبري يحدّد الكلامت التي اختارها دو سارتو يف وصف تجربته يف
الكتابة: «كان الطارئ بالنسبة إيل ّ «نسياناً» باملقارنة مع اليومي، وبعدها قاومت ُ بال جدوى ضد كل أشكال النسيان،
. عندما يستحرض تجربته يف الكتابة أو باألحرى البُعد العرفاين15وعدم قدريت عىل القعود هنا أو االحتفاظ بهذا»
لكتابته، فدامئا ً من مبدأ إمكانية الالممكن أو الظهور املفاجئ للحدث. هناك طبعا ً الكتابة املخطِّطة واملنظِّمة التي
سامها يف موضع آخر من كتاباته «الكتابة االسرتاتيجية»، تلك التي تحيط مبوضوع املعرفة يف قوالب محكَّمة؛ لكن مثة
كتابة فارَّة، مجازية وحُرَّة، سامها دو سارتو «مامرسة يف اإلزاحة»، والتي سامها يف مَواطن أخرى من كتاباته «الكتابة
التكتيكية».
تحمل مامرسة الكتابة عند دو سارتو عىل عالمات عرفانية تقوم أساسا ً عىل السفر، «حركة يف خط الطريق»،
. موضوع العرفاين مفقود أو هو16وأيضا ً عىل العُنرص الكفاحي الذي هو علة رصاع العرفاين مع ذاته «بال هدنة»
الفقدان يف حد ذاته، هذا الفقدان الذي يجعل مامرسة الكتابة أمرا ً ممكناً: «هل ميكن أن نكون هذه الكتابة حيث
.17يتكلم الغياب املعطّش؛ هل تقوم أحسن من مضامينها عن دوران وتوقف وعبور التفكري املسكون بغياب الحضور»
ليس الغياب موضوع الكتابة املبارش، ولكنه، فيام وراء التقسيامت والعقالنيات، هو الدافع واملحفّز، وعلَّة الكتابة،
) التي خصَّص لها رشحا ً وافيا ً يف قراءته لدو سارتو،ouiأو القبيل األصيل الذي سيتَّضح عند دريدا مع كلمة «نعم» (
وسنعود إىل ذلك يف محله.
دريدا عرفاين؟ بني الرغبة والرضورة3-
Françoisهل ميكن للتفكيك والعرفان أن يكونا متوافقني؟ يف كتابه «دريدا والثيولوجيا»، استطاع فرانسوا نولت (
، متوارية، تنظّم النص الدريدي مثلام18) توضيح املفرتضات الالهوتية عند دريدا، أو ما سامه «بقايا الهوتية»Nault
أن التفكيك يعمل عىل استثامر اقتصاد النص الالهويت. هل ميكن الحديث عن تقاطع (كياسم) بينهام حيث يتداخل
الثيولوجي والتفكييك يف حقل التفكري نفسه؟ تعود املباحث الدينية عند دريدا بشكل بارز أو خفي. لكن أكرث من
الديني، هل هناك مفرتضا ً عرفانيا ً يف نصوصه؟ يف مداخلة قيّمة عنوانها «غريية اآلخر بشكل آخر: عىل خطى جاك
، قام فرنسيس غيبال باإلشارة إىل البُعد العرفاين املمكن اكتشافه عند دريدا. يقول: «إذا كان باإلمكان إيجاد19دريدا»
)، وليس عرفان الحلول والعودة إىل الواحد»،exodeصبغة «عرفانية»، فبرشط تحديد أنه عرفان املنطلق والهجرة (
معتمدا ً يف ذلك عىل تعريف دو سارتو للعرفان الذي رأيناه من قبل. فالعرفان كام جاء يف تحديد دو سارتو يشتمل
عىل طريقة دريدا يف الرؤية والتقيص، وميكن تعداد بعض الجوانب العرفانية يف الهجرة والتَشتُّت (السفر أو املنفى)،
يف الرغبة (أو النقصان والفقدان)، وأخريا ً يف ما ال ميكن تسميته أو املسكوت عنه يف شكل قرار غري حاسم: «ليس
.)ce n’est pas ça( »هذا ً
استطاعت األسئلة واألجوبة عىل مداخلة فرنسيس غيبال أن تدقّق هذا النزوع العرفاين لدى دريدا، لكن دامئا
17
2017 العدد السابع والثامن سبتمرب مجلة
بتحفُّظ دريدا بإلصاقه بأي نوع من العرفان، حيث قدَّم مالحظة هامة بقوله: «طبعا ً بال شك هناك االفتتان بالغياب.
وال أصف هذا االفتتان أو الولع بكلامت سيكولوجية أو وجودية، ولكن ميكن فعل ذلك. إن اليشء الذي يشبه االفتتان
ّ دريدا عن رب. ويف تدخُّل آخر، يع20يف عملية الكتابة أو يف عملية التفكري، هو الطور أو النمط األساس لدافع اإلثبات»
رفضه لكل نزوع عرفاين بقوله: «أقول شيئا ً آخر بالنسبة للعرفان. إذا أخذنا هذه الكلمة يف معناها املبتذل، يف شكل ُ
تجربة يف الحضور واالتصال والحدس، أقول بأين أبعد ما يكون عن العرفان وأقل ميال ً نحو العرفان حتى وإن كنت
أحلم بذلك». لكنه يُدرج فارقا ً طفيفا ً وأساسيا ً عندما يقول: «ال أقول بأنه ليس لدي َّ ذوق عرفاين، ولكن مثة رضورة
تحكم حيايت يف مجملها هي غريبة متاما ً عن العرفان يف داللته املبتذلة. ال أتذكَّر حرفيا ً تعريف دو سارتو للعرفان،
.21ولكن عندما سمعته، قلت ُ يف نفيس: ومل ال؟ وسنكون كثريون عىل قوله أيضا ً واالنخراط فيه»
لِـم ال إذن؟ ما دام دريدا يقصد العرفان يف داللته املبتذلة التي هو بعيد عنها، ورمبا هو قريب من الداللة التي
وضعها دو سارتو. التمييز الذي أقامه دريدا يفصل بشكل حاسم بني الرغبة والرضورة. فهو يقول أيضا ً بأن هناك
«حربا ً شعواء» بينهام. لكن، أليس يف كل حرب أو رصاع تحالف ضمني يف شكل تواطؤ األضداد تبعا ً لفكرة نيكوال
)؟ ال نتكلم هنا، بطبيعة الحال، عن وحدةCoincidentia oppositorumالكوزي العريقة حول «تواقت النقيضني» (
متعالية تستغرق االختالفات بتذويبها، ولكن بتحالف يجعل النقائض تحتفظ بفرديتها وتعيُّنها، وهذا يقرتب من
.)différanceاملخطط املضاد للهيغلية عند دريدا وهو االختالف املرجأ (
) «االختالف، العالقة، الغريية»، أجاب دريدا عنStanislas Bretonيف النقاش حول مداخلة ستانسالس بروتون (
) حول املغزى من «الحرب الشاملة» التي نعت بها دريدا االختالفGuy Petitdemangeتساؤل غي بوتيدومانج (
الراديكايل بني الرغبة والرضورة، أو بني العرفان والربهان قائالً: «جاك دريدا، إن اليشء الذي أثار انتباهي يف تدخلكم
هو قولكم «بني الرغبة والرضورة هناك حرب شاملة». إذا فهمت ُ املقصود من قولكم هذا، فالرضورة عندكم هي يف
. كانت إجابة دريدا بهذه الكلامت: «من الصعب أن نرتجل يف هذه22أصل كل فعل يف التفلسف وأصل كل كتابة»
)، استعملت ُ كلمة رضورةLa carte postaleاألسئلة. أؤاخذ نفيس أنني تفوَّهت ُ بكلمة حرب. يف «البطاقة الربيدية» ( ً
، وكأنها إسم عَلَم، ال ألن أجعل منها شخصا ً أو أمثولةً، لكن لتبيان أن الرضورة هي دامئاNécessité بالحرف الكبري
رضورة يشء فريد. إنها حد قائم عىل توسُّع الرغبة أو عملية االمتالك، حد يحدّده اآلخر كآخر، بوصفه حامل إسم
.23عَلَم – إنها حاملة إسم عَلَم – بوصفها مفهوماً. بوقويف عند هذا الحد، فإنني أكتب وأحاول أو أفكر»
غري أن دريدا يضع كرشط عدم إمكان الرغبة هو نفسه رشط إمكانها. فالرغبة تتواجد يف هذه املفارقة كونها
) ويف كونها ال تعرف التوقف (إحالة، استحالة مبعنى التحوُّل،manque تفتقد شيئا ً (الرغبة بالتعريف هي فقدان
الالنهايئ، إلخ). يقول دريدا عن نفسه بأن يكتب تحت وطأة الرضورة أو قانون الرضورة ويشبّه هذه الرضورة كاسم
عَلَم له شخصه، باملعنى نفسه الذي جعل ابن عريب من الحروف أمة من األمم. فالرضورة هي فضاء محصور يحدد
الفانتاسامت الجامحة للرغبة قصد التهديء من دافعها امللتهب. عندما كتب ابن عريب «ترجامن األشواق»، كان ذلك
تحت وطأة الحال والرغبة؛ وعندما كتب «ذخائر األعالق» لرشح الرتجامن، كان ذلك بقلم الرضورة املفهومية لتبيان
املقصود من الرموز املستعمَلة، خصوصا ً وأن بعض الرموز من الرتجامن كانت محط هجوم وتشنيع من طرف الفقهاء.
تفسري الرموز أملته الرضورة يف وضع الحدود النظرية وتأشري األرضيات املفهومية قصد تحويل الجسدي إىل روحي
18
2017 العدد السابع والثامن سبتمرب مجلة
أو تبيان أن الرموز املحسوسة تحيل، يف حقيقة األمر، إىل معطيات معقولة أو متعالية.
عندما كان ابن عريب يقصد بقصيدته «الرتجامن» «األيقونة» ليحيل بها إىل يشء آخر غري الحس املبتذل، كان
أعداؤه يرون فيها «األيدولة» التي ال تحيل إىل يشء آخر سوى إىل ماديتها الفظة. يعود ستانسالس بروتون إىل
مالحظة دريدا قصد الفصل يف بعض األشياء امللتبسة بقوله: «أعتقد أنني فهمت ُ بأن مثة نوعني من العرفان: «العرفان
) (سليل األفالطونية املحدثة ويغلب عىل روحانية املعلم إكهرت)؛ و»العرفان التشتيتي»hénologiqueالتوحيدي» (
). أعتقد أن هذا العرفان التشتيتي، أقل إقامة وأكرث تيهاً، هو الذي كان يقصده دو سارتو يف كتابهdiasporique(
. هذا التمييز بني العرفانني حاسم ويسهّل عملية وضع دريدا يف العرفان التشتيتي، العرفان24«الحكاية العرفانية»»
البيني أو الفاصل، يف اخالف راديكايل عن العرفان التوحيدي، املختزل للفروقات واالختالفات، والشمويل.
) بقولها: «أعتقد جاك أنكElisabeth de Fontenayإنها املالحظة نفسها التي وجهتها إليزابيت دو فونتني (
َّ ستانسالس بروتون، العرفان له عالقة بالاليشء، الصحراء، الغياب [...] عمل دريدا هو ني«عرفاين» أكرث مام تظن. كام ب
. تبقى25مل تجربة: عمل حول الاليشء، حول الغياب، ولكن حول املؤسسة أيضاً: إنك أكرب مؤسس، أكرب مشكّل...»
): الغياب-املؤسسة، الصحراء-التشكيلoxymoronاملشكلة يف معرفة كيف ميكن تأويل هذا التناقض الظاهري (
الذي تتحدث عنه إليزابيت دو فونتني. هل ميكن أن نؤسّس يف الفراغ؟ هل نشكّل يف الغياب أو يف الاليشء؟ رمبا
) تشكيالت متنوّعة، مثلام يتيحpermission, permissifالكلمة التي تنطبق عىل هذا التأسيس األصيل الذي يتيح ( ً
) الذي هو أيضا ً ذو طبيعة أكسيمورية (حضور-غياب) أو أيضاla traceالنص وجود تأويالت متصارعة، هو األثر (
الشبح أو الطيف وكل ما يفيد «البينية»، بني األشياء.
«نعم، بال شك»: دريدا قارئا ً دو سارتو، الدَيْن والوعد.4-
يف مقال كتبه دريدا حول دو سارتو كقراءة يف كتابه «الحكاية العرفانية»، شدَّد فيه عىل القبول األصيل الذي
Angelus؛ تلك الكلمة التي اكتشفها دو سارتو عن العرفاين أنجلوس سيلسيوس (26يجعل كلمة «نعم» ممكنة
) من هذاJa) إىل قسمني واستخالص «نعم» (Jahvé) من القرن السابع عرش الذي شق َّ اإلسم «يهوه» (Silesius
م دريدا رشحا ً مكثَّفا ً يف قراءته لدو سارتو، كام فعل أيضا ً يف قراءته لهايدغر يف كتابهَّ اإلسم. فحول الكلمة «نعم»، قد
«هايدغر والسؤال». يقول فرانسوا نولت: «اكتشف دريدا عن هايدغر «منطقة يكون فيها القبول صارماً»؛ نعم،
.27القبول أو املوافقة، هو يشء رضوري قبل كل سؤال، بل وقبل كل «خطاب نقدي» (فلسفي، الهويت وحتى علمي)»
)، أي «نوع من الوعد أو التحالف األصيل، يقول دريدا،gageفالكلمة «نعم» تراهن عىل االنخراط وتقتيض الضامن (
الذي نحن إزاءه يف وضعية القبول. أن نقول نعم، فإننا ننخرط يف ضامنة، أيا ً كانت سلبية أو إشكالية الخطاب املرتتب
.28عن ذلك»
)، بحيث كل فعل أو نقاش يتطلب املوافقة الضمنية، وهيoriginaireكلمة «نعم» هي قبل كل يشء أصلية (
). هذا «القبول» هو دامئا ً يف حالة حركة، وألنه متحرك داخل نشاط السؤال والجوابperformativeبعد ذلك أدائية (
أو نشاط الحوار عموماً، فهو يستلزم الالنهايئ. هذا ما الحظه دريدا يف قراءته لدو سارتو عندما يستطرد قائالً: «يشدد
ميشال دو سارتو عىل هذا الالنهايئ. يرى فيه «مبدأ عرفانياً». وهذا املبدأ هو النهائية «نعم»». كيف ينبني إذن
املبدأ العرفاين عىل «نعم» النهايئ؟ أو عىل القبول األصيل؟ يقوم دو سارتو مبقابلة هذا الـ«نعم العرفاين» القائم عىل
19
2017 العدد السابع والثامن سبتمرب مجلة
أنطولوجيا التلقي مثلام نجد بعض جوانبها عند ابن عريب مع فكرة «القبول» أو «العقل القابل»، والـ«ال العلمي»
الذي يقتيض تقسيم موضوعاته من وراء مبدأ التمييز. النهائية «نعم» أو تكراريته تقابلها إرادة مأل موضوعات القصد
.)l’Uniqueوإيجاد مركز ثقل حول الواحد (
لكن، يف حقيقة األمر، الـ«نعم»، املنغرس يف أرض إيجابية أو إثباتية، ال ينفك عن اخرتاق الحدود عرب الالنهائية
). الـ«نعم» ليس نواة صلبة، ولكنه مجال حي ومستمر، مجال يجمعfinitudeالتي متيّزه والتي تتعدى التناهي (
بني «نعم يسوعي» و«أنا اآلخر اليهودي». غري أن دريدا يتساءل حول مغزى هذه االزدواجية: «بني اإلثبات اليهودي
واإلثبات املسيحي، ال ميكننا الحديث عن توافق وال عن انتساب. لكن أال تفتح الهوية بني «نعم» اليسوعي و»أنا
اآلخر» للدغل املتوهّج، هنا أيضاً، حدثا ً أو نشوء ً لـ»نعم» يكون ال يهودي وال مسيحي، ليس بعد ُ وليس فقط أحدهام
واآلخر؛ هذا ال-ال، أال يحيلنا إىل بنية مجرّدة لرشط إمكان أنطولوجي أو متعايل، ولكن لـ»شبه» أدرجه منذ ذلك الحني
(شبه متعايل أو شبه أنطولوجي) والذي مينح الحدثية األصلية للحدث للحكاية األسطورية أو الحكاية املسجَّلة يف
.29)؟»fari«نعم» بوصفه أصل كل قول (
) عبارة عنFragenاكتشف دريدا هذا الـ«نعم» األصيل، ليس فقط عند هايدغر حيث غدا السؤال عنده (
)، ولكن أيضا ً عند فرانتزl’événementiel)، أي الحديث (ce qui advient)، وارتحل نحو اآليت يف اآلين (Hörenسامع (
) الذي يجعل الـ«نعم» يف األصل، ألنه أصل كل يشء. يكتسب الـ«نعم» وضعيةFranz Rosenzweigروزنتسفايغ (
أنطولوجية بتامهيه مع الكائن أو الكينونة، عندما يتالحم الـ«ال» مع العدم. يقول روزنتسفايغ: «يُعطي لكل كلمة
، ألنها تقعّد به األقوال واألفعال،30يف القضية حقها يف الوجود، ويقرتح لها مقعدا ً ميكنها أن تجلس عليها، تقعد فيه»
تقعّدها بجعلها قواعد وأحكام. الـ«نعم» قاعدي ألنه يفتتح الوجود ويتواقت مع األصل، هو نوع من «األريك»
باملعنى اليوناين العريق: بداية تأسيسية وسيادة مخوِّلة. «نعم» هو كلمة عندما يُنطق به، لكن الـ«نعم» الذي
يتحدث عنه دريدا يتعدى العبارة نحو اإلشارة، وهو قبل كل عبارة ولغة، ألنه القبيل األصيل لكل عبارة ولغة ميدّها
د، ووعد القدوم نحوُّ بفائض الكالم والنهائية التعبري: «إنه «قبل» كل لغة، يسجّل املقتىض األسايس وااللتزام أو التعه
.31اللغة، يف لغة معيَّنة. هذا الحدث الزم بقوة الـ»نعم» ذاته»
دون ربطه بأي قضاء أو قدر، أي دون ربطه بخضوع ما، نتيجة خاصيته التلقائية يف الرىض واملوافقة والسامع،
) باملعنى الرواقي للكلمة، يتمفصل مع اإلرادة يف صيغةassentimentالـ«نعم» األصيل هو باألحرى «قبول» (
، إرادة لها خاصية أدائية، ألنها32) التي درسها دو سارتو بإسهاب يف قراءته للمعلّم إكهرتvoloاملخاطب: «أريدُ» (
خاصية تداولية، تستحرض األصل يف الراهن، هنا واآلن، ال يف األزليات السحيقة وال يف الرسمديات البعيدة. بهذا
املعنى، منح دريدا لهذا الـ«نعم» األركيولوجيا األصلية بوصفه أساس كل إثبات أو نفي، أساس بُنيت عليه بشكل بارز
األبعاد العرفانية ذاتها القامئة عىل أنطولوجيا القبول، مبا يجيد الوجود من عائدات وواردات يلتطها السمع العرفاين