تقديم
اقترن البحث في فلسفة سارتر بنمط مخصوص من القراءة التي تهيمن على التلقّي التاريخيّ للمدوّنة السارترية، سواءً داخل الأوساط الفلسفية الفرنسية أو في المحاولات الجادّة التي قدّمها المهتمّون العرب بهذا الفكر. هذا النمط من القراءة السائدة قد ساهم فعلا في الإحاطة بالقضايا التي تطرحها فلسفة سارتر، من مثل أسئلة الحرّية و الضّيق و القلق والالتزام و المسؤولية و الاغتراب و الثورة و العمل، و هي كلّها مفاهيم يشتغل عليها سارتر في مواضع متفرّقة من أعماله الأدبية و الفلسفية. حتّى أنّ هكذا قراءة قد أضحت ترهن سارتر بعناوين و شعارات ثابتة من قبيل " فيلسوف الحرّية " أو " مفكّر الالتزام " أو " الأديب المقاوم "...
هذه القراءات المختلفة، على أهمّيتها في تقديم نسقيّ لجوانب فلسفة سارتر، لم تٌفلح مع ذلك في اختبار المنزلة التي يتبوّأها فكر سارتر بإزاء التراث الفنومينولوجيّ الذي يتجذّر داخله، و لا في الوعي بشكل كاف بالإضافة الأنطولوجية التي تشهد على أصالة عريقة تربط خطاب سارتر بخطابات الكينونة و تلحقه ب " صراع العمالقة حول الكينونة " . وبصفة أخصّ، ظلّ السؤال السارتري عن الزّمان داخل تلك القراءات غير مشتغل به على نحو عميق برغم كونه يكاد يكون عقدة مسألة الكينونة كما يفهمها سارتر . لذلك فإنّ الفرضيّة التي تنقاد إليها محاولتنا تتمثّل في الإعراض عن الانخراط في هذا المسلك المعهود الذي يوجب على القارئ أن يتلقّى مشروع سارتر في الكينونة والعدم فقط من زاوية الفتح الوجوديّ و من جهة الإفلاح في تحليل خصائص الواقع الإنسانيّ (la réalité humaine). إنّنا نتخيّر قراءة هذا المشروع على نحو مغاير، من خلال النّفاذ إلى ما يشهد عليه نصّ 1943 من إضافة أنطولوجية تعيد هيكلة العلاقة بين الكينونة والزّمان، ومن تملّك لآليات الاقتضاء المنهجيّ الفنومينولوجيّ . بصيغة أوضح، نحاول هنا إجلاء طبيعة وخصوصية اللّقاء بين الفنومينولوجيا والأنطولوجيا في مستوى مؤلّف الكينونة و العدم، و خصوصا في ضوء الكيفية التي يعيد من خلالها سارتر بناء و هيكلة العلاقة بين سؤال الكينونة و سؤال الزّمان.
التحليل ما بعد الميتافيزيقيّ لظاهرة الزّمنية : إعادة تشكيل العلاقة بين أبعاد الزّمن
يتبوّأ السؤال عن معنى الزّمنية منزلة متميّزة في مؤلّف الكينونة و العدم، من حيث هو يغطّي حيّزا هامّا من هذا المؤلّف. ذلك أنّ سارتر يخصّص كامل الفصل الثّاني من القسم الثّاني من مؤلّفه لمعالجة مشكل الزّمنية لا بما هو مشكل يبتدعه المنظور الوجوديّ ابتداعا لا أسلاف له ، و لا من حيث هو أيضا مشكلا جهويّا مستقلّا بنفسه عن الفضاءات الإشكالية التي يقتحمها الفكر السارتريّ. إنّ طرح مشكل الزّمنية عند سارتر هو من جهة اقتضاء منهجيّ يفرضه الانخراط في المسلك الفنومينولوجيّ الذي رسمه هوسّرل، و هو من جهة أخرى قد أضحى ضرورة موضوعية يُمليها التدبّر الوجوديّ لسؤال الكينونة . إنّه بهذا المعنى يصبح لزاما على سارتر، و هو الذي أخذ على عاتقه مهمّة استثمار المنهج الفنومينولوجيّ، أن يعيد مساءلة ظاهرتيْ الزّمان و الكينونة انتسابا لهوسّرل و تقويما جديدا للمنهج. انتسابا لهوسّرل على معنى الوفاء للسياق الفكريّ الذي سمحت تحليلات هوسّرل بانفتاحه، و تقويما للمنهج على جهة استثمار فكرة القصدية في تطبيقها على ظواهر جديدة تختلف عن تلك التي ارتبطت بالوعي عند هوسّرل.
إنّ معالجة سارتر لمشكل الزّمنية في الكينونة و العدم وفقا لهذه الاعتبارات إنّما تجعل منه وريثا بارزا لمكاسب التفكير الفنومينولوجيّ في الزّمان على نحو ما صيغت هذه المكاسب أوّلا في دروس هوسّرل حول الزّمان لسنة ..... و ثانيا في الكينونة و الزّمان لهيدغر . و من هنا فإنّ ما ننتظره من المساءلة السارترية للزّمان هو استحداث وضع متميّز لظاهرة الزّمان يكون مغايرا، بمقتضى جدّته المفترضة، للوضع الهوسّرلي للزّمان المتعلّق بالوعي و كذلك للزّمان كأفق مميّز للكينونة كما بسطه هيدغر. لنبدأ إذن بمحاولة توضيح طبيعة و خصوصية المساءلة السارترية لظاهرة الزّمنية، و ذلك من خلال الوقوف على الأفق الذي قاد سارتر إلى ضرورة مواجهة مشكل الزّمنية. إنّ سارتر يعلن في بداية الفصل المخصّص لدراسة معنى الزّمنية عن أنّ المقصود ليس مجرّد فحص وضعيّ و خارجيّ لمفهوم الزّمن في ذاته، بل هو توصيف فنومينولوجيّ لكينونة الزّمن (l’être du temps) مع ما تفترضه هذه العبارة من تعيين أنطولوجيّ للمبحث.
ينطلق سارتر في بداية الفصل الثّاني من القسم الثّاني، وهو الفصل الذي يحمل عنوان "الزّمنية "، بالاعتراض على التصوّر المعهود للزّمن باعتباره سلسلة من الآنات المتقطّعة و المنفصلة عن بعضها البعض. إنّ تجزئة بنية الزّمن إلى عناصر الماضي و الحاضر و المستقبل و إدراكها " كمجموعة تواريخ علينا جمعها كما لو أنّها سلسلة لا متناهية من اللّحظات الآنيّة " هي طريقة مغلوطة لا تتيح فهما فنومينولوجيّا عميقا للزّمن في حقيقته. و لذلك يعمل سارتر منذ البدء على تجاوز سذاجة القراءة السّائدة و يخلص إلى القول بضرورة فهم الزّمن كبنية مركّبة و مترابطة المكوّنات. يقول سارتر: " الطريقة الوحيدة لدراسة الزّمنية هي في مقاربتها ككلّ شامل يحدّد أجزاءها البنيويّة الثانويّة، و يعطيها معناها " .
إنّ فنومينولوجيا الزّمن التي يقترحها سارتر لا تتدبّر الزّمنية بإلحاقها بموضوع خارج عن ماهيتها، مثلما هو الحال في الدّراسة الأرسطية للزّمن في علاقته بالحركة الطبيعية الجسمانية، ولا أيضا من خلال شدّ الزّمنية إلى العنصر النفسيّ الرّوحاني العميق، على شاكلة ما ذهب إليه تحليل أغوستين للزّمن في علاقته الجوّانية بالنّفس. و لمّا كان المنهج الفنومينولوجيّ يتحدّد كتحليل وصفيّ للظواهر، فإنّ فنومينولوجيا الزّمنية يجب أن تُفهم، خارج التّقليد التعارضيّ بين نزعة موضوعية طبيعية و نزعة نفسية جوّانية، بما هي تحليل للزّمنية في ماهيتها الأشدّ التصاقا بها، أي تحليل لمعنى ظاهرة الزّمنية على النحو الذي ينعطي به هذا المعنى إلى الوعي (هوسّرل) أو إلى الكينونة (هيدغر).
هذه التّحليلية السارترية لمعنى الزمنيّة تفرض على نفسها أوّلا تجاوز التصوّر العدميّ لأبعاد الزّمن، و هو التصوّر الذي يصادر على انعدام حضور و تقوّم ذاتي للّحظات : الماضي لم يعد موجودا، و المستقبل لم يوجد بعدُ، و الحاضر لا يمكن الإمساك به ككيان. انطلاقا من عرض أمثلة مستقاة من الواقع المعاش و على أساس مناقشة لمذاهب التراث (ديكارت و برغسن خصوصا) تعتمد على مفاهيم الوعي و الذّاكرة و الإدراك و الشّعور، يعترض سارتر على القراءة التي تكرّس انفصالية بين جهات الزّمن باعتبارها أبعاد معدومة فاقدة لخاصّية الكيان من جهة وأبعاد منفصلة عن بعضها البعض و لا ينتمي بعضها إلى بعض. هنا يدافع سارتر من جهة عن تآلف بين آنات الزّمن بما هي كلّ مركّب و من جهة أخرى عن تقوّم كينونيّ تتميّز به جهات الزّمن. فمثلا ثمّة علاقة " علاقة أنطولوجية تجمع الماضي بالحاضر، فلا يظهر ماضيّ إطلاقا في عزلة كينونته كماض، حتّى أنّه من العبث البحث في إمكانية أن يوجد قائما بذاته: إنّه في حقيقته الأصلية ماضي هذا الحاضر" .
من أجل إثبات لا انفصالية أبعاد الزّمن، يتوقّف سارتر في تحليلاته الفنومينولوجيّة لمعنى الزّمن عند الفكرة التي يحملها الوعي عن الماضي كبعد مؤسّس لتركيبة الزّمن.انطلاقا من تأويلية عميقة لعبارة " كان "، يخلُص سارتر إلى استنتاج علاقة أصلية غير قابلة للانمحاء بين الماضي و الحاضر. يقول: " إنّ فعل "كان" يعني أنّ الكائن الحاضر يجب أن يكون في كينونته أساسا لماضيه، و ذلك بأن يكون هو نفسه هذا الماضي " .
ليس ثمّة بالنتيجة قطيعة بين الماضي و الحاضر، فكلاهما جزء من كيان الذات الزّمنيّ، من حيثما هو كيان لا يقبل التجزئة و لا يحتمل التنصّل من طور ما من أطوار كينونته الخاصّة. ثمّة دائما، حسب سارتر، صلة ناظمة تحيل عليها عبارة "كان" بين ماضي الوعي و حاضره، على أنّ هذه الصلة ليست محض رابطة برّانية بمفعول موضوعيّ متخارج و غريب عن بنية الزّمنية ذاتها، بل هي رابطة أنطولوجية، خلالها يستشعر الوعي ألحّية حضور الحدث الذي مضى و كأنّه حاضر دوما في صميم الذاكرة. إنّ الوعي، بهذا المعنى، يحمل ماضيه حملا و تربطه به علاقة كينونة، حتّى لكأنّ فعل "كان" أو "كنتُ"، بمقتضى تشريح فنومينولوجيّ يباشره سارتر، لتنفسخ مدلولاته الصّرفية و اللّغوية ليصبح دالّا على "أسلوب كينونة " .
إنّه من خلال إخضاع بعديْ الزّمن (الماضي و الحاضر) لتفكيك فنومينولوجيّ عميق، يتمكّن سارتر من الوقوف على جوهر العلاقة بينهما استنادا إلى شعور الخجل. ذلك أنّ الماضي ليس أبدا لحظة قد عاشها الإدراك ثمّ انقطع حضورها و تلاشت كينونتها و انعدمت استمراريّتها بمفعول حدوث الحاضر. الحاضر لا يقطع كينونة الماضي إطلاقا، و الإحساس بالخجل في لحظة قد مضت إنّما يظلّ إحساسا ملازما للكينونة الحاضرة و ينساب خلال نسيجها. لا ذوبان من جهة لإحدى اللّحظتين في الأخرى على نحو يمّحي فيه ماهية الماضي في بنية الحاضر، مثلما أنّه من جهة أخرى لا استقلاليّة بينهما على المعنى الذي تتباعد فيه المسافات بين الماضي و الحاضر. تلك هي النّتيجة التي يتوصّل إليها التحليل الفنومينولوجيّ السارتري لبنية العلاقة الأنطولوجية بين أبعاد الزّمن. يقول سارتر مبيّنا هذه المحصّلة : " هناك عدم تجانس مطلق بين الماضي و الحاضر، فإذا لم أكن أستطيع الدّخول إلى الماضي، فهذا لأنّه كائن(...) الواقع أنّ ذلك الخجل الذي شعرت به البارحة إنّما هو دائما خجل في الحاضر، لكنّه لم يعد لذاته في وجوده لأنّه لم يعد انعكاسا-عاكسا. يمكننا وصفه بأنّه لذاته، لكنّه ببساطة موجود(...) إنّه خالد في تاريخ حصوله" .
إذا اتّفق مع سارتر ضرورة مجاوزة النّظر إلى علاقة الماضي بالحاضر من جهة الانفصالية و الاستقلالية و إدراكها كبنية مترابطة العناصر بمقتضى منطق أنطولوجيّ داخليّ، فعلى أيّ نحو ينبغي أن تُفهم هذه المرّة علاقة المستقبل بكلّ من الماضي و الحاضر؟ إنّ المفهوم الأبرز الذي يستعمله سارتر لصياغة فهمه الفنومينولوجيّ لمعنى المستقبل هو مفهوم الممكن (le possible). وإنّ اعتبار المستقبل من جهة الإمكان هو أمر يضفي عليه خاصّية التأسيس، حيث المستقبل لا يجعلنا فقط أمام إمكانية عابرة أو أخرى، و إنّما هو أساس كلّ الإمكانات المفترضة و القابلة للتوقيع. يقول سارتر في هذا السّياق : "ليس المستقبل كائنا، إنّه يجعل نفسه ممكنا، و يجعل باستمرار كلّ الممكنات ممكنة " . و بهذا المعنى يفتح فهم المستقبل كممكن سؤال الحرّية، من جهة أنّ الوعي يكون عليه الاختيار الحرّ بين شبكة من الإمكانات، اختيارا سوف يكون مسؤولا على تبعاته بعين حجم الحرّية التي تتاح له للاختيار.
هكذا يتيح التحليل الفنومينولوجيّ للزّمنية قطعا مع التّصوّرات الميتافيزيقية للزّمن، و هذه التّصوّرات تكاد تظهر في نصّ سارتر تحت عنوانين أساسيّين : الزّمنية التعاقبية و الزّمنية التتابعية. إنّ كلا هذين الموقفين من الزّمنية لا يستوفي معنى الزّمن في حقيقته، من حيث هو كلّ متّصل و مركّب لا تباعد بين آناته و لا انفصاليّة بين لحظاته. يتوصّل سارتر إلى هذه النّتيجة على أساس مناقشة حاسمة لأهمّ مذاهب التّراث الميتافيزيقيّ بخصوص الزّمن (ديكارت، هيوم، كانط، هوسّرل) ، مناقشة تخلص إلى إظهار لا كفاية الأفهام التقليدية للزّمن و تؤسّس لما يسمّيه سارتر أنطولوجيا الزّمنية، تلك التي يصبح الزّمن بمقتضاها مفهوما على معنى الإطار الكلّي الذي يستغرق علاقة الوعي بالعالم.
هذه المساءلة الفنومينولوجيّة للزّمنية مكّنت سارتر فعلا من اللّقاء بأهمّ المواقف الميتافيزيقية من قضيّة الزّمن. ذلك أنّ الخطاب الفلسفيّ التقليديّ بخصوص الزّمن، من ديكارت إلى برغسن، و من لايبنيتز إلى كانط، قد بقي مرتهنا بنمط المعالجة الميتافيزيقية و تابعا للتأسيس النّظريّ لأيقونة الأنا أفكّر (ديكارت) أو القبليّ (كانط) أو الديمومة (برغسن). و العيب الذي يطغى على هذه التقويمات الميتافيزيقية يكمن حسب سارتر في كونها تعمل على شدّ مسألة الزّمن إلى فضاءات خالدة و غير متزمّنة. و هنا يكشف سارتر عن المفارقة الملازمة لميتافيزيقا الزّمن، تلك التي تسقط في الخلط الساذج بين الزّمنيّ و غير الزّمنيّ، و هو خلط يجعل الوعي غير قادر على اكتشاف حدود إدراكه الخاصّ : " إذا كانت كينونة الزّمن موضوع إدراك حسّيّ، كما سيُعترف بذلك، كيف يتشكّل الكائن المدرَك، أي كيف يمكن لكائن له بنية لا علاقة لها بالزّمن أن يدرك حالات في-ذاتها، معزولة في وجودها غير الزّمنيّ، فيعتبرها زمنيّة (أو يستهدفها قصديّا كزمنيّة) ؟ " .
في الزّمنية بما هي البنية التحتية لوجود الكائن
إنّ قضيّة الزّمنية، كما سبق أن أشرنا، لا يستهدفها التحليل السّارتريّ كما لو كانت قضيّة قطاعية أو مشكلا مستقلّا بذاته، وإنّما يقع استهدافها من حيث علاقتها الملزمة بقضيّة الكينونة. لذلك فإنّ مفهوم الزّمنية مُلحَق ضرورة بهذا الأفق الأنطولوجيّ الذي يقصد تعيين نمط كينونة ما يسمّيه سارتر الكائن-لذاته على تغايره الجذريّ مع الكائن-في ذاته. فالتّحليل الفنومينولوجيّ للزّمنية يصبح إذن ضربا من الإعداد المنهجي الذي يمهّد لبروز فضاء إشكاليّ جديد ينتقل إليه سارتر في آخر الفصل الثّاني من القسم الثّاني من الكينونة و العدم، و هو الفضاء الذي يقع فيه طرح سؤال الكينونة انطلاقا من كونها كينونة داخل الزّمن أو كينونة متزّمنة. ماذا تمثّل الزّمنية إذن بالنّسبة إلى الكينونة ؟
إنّه على عكس التّأسيسات الميتافيزيقية السائدة يحاول سارتر تجاوز المسافة التي ترسمها هذه المذاهب بين كينونة الكائنات و أفق الزّمنية، كما لو كانت كينونة الكائن، أي جوهره و ماهيته، إنّما ينبغي البحث عنها في فضاء الثبات و الدّيمومة و الخلود لا في فضاء التّزمّن و المائتيّة (la mortalité) . و بالتّالي فإنّ علاقة الزّمن بالكينونة كما يفهمها سارتر ليست علاقة برّانية أو عرضية، و لا هي أيضا نقصان و عَوَز يعتريان الكينونة فيُفقدانها طابعها المجرّد و اللّامتعيّن – و ما العَوَزُ و لا النّقصانُ بكبت ولا بتعطيل للكينونة ضمن قناعات الموقف الوجوديّ – بل " إنّ الزّمنية لا يمكنها أن تكون سوى علاقة وجود في صميم الكائن ذاته " . هكذا فإنّ خصوصيّة العلاقة بين الزّمن و الكينونة يمكن اختصارها على هذا النّحو: بقدر ما تكون الزّمنية هي الخاصّية الأولى التي تُميّز الكائن، بقدر ما يكون الكائن مستغرَقا من حيث وجوده في زمنيّة جذريّة. و لْنقلْ ذلك في لغة سارتر، " وحده كائن ذو بنية وجوديّة معيّنة، يمكنه أن يكون زمنيّا في وحدة كينونته "، مثلما أنّه " لا توجد الزّمنية إلّا كبنية تحتية لكائن عليه أن يكون هو وجوده، أي كبنية تحتية لما هو لذاته " .
إنّ هذا التذويب السارتريّ للكينونة-لذاتها في أفق التّزمّن و للزّمنية ضمن وجود الكائن لذاته هي أهمّ النتائج التي توصّل إليها التّحليل الفنومينولوجيّ لأنطولوجيا الزّمنية. بهذه الكيفية، لا يبدو التّحليل السارتريّ بعيدا عمّا توصّلت إليه التّحليليّة الوجوداوية لزمنيّة الدّازاين عند هيدغر، على اعتبار أنّ الفتح الأنطولوجيّ الذي يدّعيه مؤلّف الكينونة و الزّمان هو أساسا تحرير سؤال الكينونة، الذي طالما طُرح ميتافيزيقيّا في ضوء فهم خاصّ للزّمنية، من الارتهان بأفق الحضور (la présence/ousia). و بالتّالي فإنّ الهدف الذي ينهض لاستكماله هذا المؤلّف، فيما يُعلن هيدغر، يتمثّل في " توضيح معنى الدّازاين انطلاقا من الزّمنية و فهم الزّمن كأفق ترنسندنتاليّ لمسألة الكينونة " . من الكينونة و الزّمان (1927) إلى الكينونة و العدم (1943) يجري الاهتمام بمسألة الزّمن، بنفس القدر، من جهة علاقتها الجوهريّة بمسألة الكينونة، فلمّا كان الفهم الميتافيزيقيّ للزّمنيّة هو علّة نسيان الكينونة (هيدغر) و أساس عمى المثاليّين عن خصوصية نمط وجود الكائن-لذاته (سارتر)، كان المطلوب إذن هو صياغة فهم فنومينولوجيّ للزّمن من شأنه إتاحة الإمكان لفهم ما بعد-ميتافيزيقيّ لسؤال الكينونة.لذلك كان على سارتر، مثلما هو الحال مع هيدغر و إن بتكاليف و منطلقات و غائيّات أخرى، تغيير الفهم الجاري للزّمنية حتّى يصبح بالإمكان مقاربة الكينونة بشكل أصوب.
إنّ التحليل الفنومينولوجيّ السارتريّ لزمنيّة الكينونة يستفيد بلا شكّ من الخطوة الهوسّرلية التي أدرجت مفهوم الزّمن ضمن مساءلتها لبنية تكوّن الوعي، كما يستثمر بعمق استنتاجات التّحليليّة الوجوداوية الهيدغرية التي تؤهّل سؤال الكائن ضمن تقويم لا ميتافيزيقيّ للزّمنيّة. ولكنّه من جهة أخرى يصرف هذه المكاسب الوافدة من التّراث الفنومينولوجيّ لخدمة أفق جديد من النّظر الوجوديّ في الكائن، من حيث هو نظر يطرح على الكائن مهمّة التّعديم (la néantisation) و التّجاوز و الخروج عن الذّات نفيا لحاصلها و مُعطاها و جرّا لها إلى معاناة الفراغ و السلب و الحرّية و إحالة للوعي إلى تجريب وضعيّاته الخاصّة.